الاتصالات المباشرة بين حكومة الامر الواقع في سوريا بقيادة احمد الشرع "الجولاني" سابقا واعوانه من جانب واسرائيل من جانب آخر كان من المفترض ان تكون مثيرة للجدل والشبهة ايضا، خاصة ان الخلفية الدينية الجهادية المتطرفة لتلك الجماعة الحاكمة تعتبر "اليهود" عدوهم الاول المعني بهذا الجهاد.. لكن يبدوا ان حديث السياسة اثناء الحكم يختلف كليا عنه اثناء الصراع من اجل الوصول الي كرسي السلطة، حتى لو كان الثمن التحالف مع الشيطان نفسه بدلا من الجهاد ضده.
علي كل حال الامر بات مكشوفا وان صح التعبير فهو مفضوح، وهناك مخاوف من ان تصبح تلك الاتصالات المباشرة بين إسرائيل وسوريا مصدر خطر حتى على "الجولاني" نفسه من بعض العناصر المتطرفة في إدارته الجديدة. وفي الوقت نفسه فان المنطق والعقل يحكمان تصرفات الشرع الذي لا يمكن ان يتخذ مثل تلك الخطوة الا إذا كان على يقين بأن المناخ العام في سوريا أصبح أكثر قابلية لما كان مرفوضا من قبل، وما كان محرما في السابق يمكن ان يصبح مباحا بفقه الاولويات. وهذا ما كشف عنه المركز السوري للأبحاث والرأي العام (مدى)، الذي أجرى استطلاعا في الأسابيع الأخيرة حول هذا الموضوع في بين 2,550 سوريا من جميع المحافظات السورية. وفقا لما نشره المركز فان ٤٦٪ من المستطلعين يعارضون اتفاق سلام مع إسرائيل. و٣٩.٨٨٪ من المستطلعين يؤيدون معاهدة سلام مع إسرائيل. و13.7٪ غير مبالين أو غير مهتمين. وان ٦٠٪ يعتقدون أنه سيتم توقيع اتفاقية مستقبلا. وربما هذا التغيير هو ما دعي الرئيس أحمد الشرع الي القول بإن "حقبة القصف المتبادل" بين سوريا وإسرائيل "يجب أن تنتهي"، وأن الجانبين لديهما "أعداء مشتركون". جاء ذلك في مقال لرجل الأعمال الأمريكي جوناثان بوس، نشر في المجلة اليهودية، بعنوان "حوار مع الرئيس السوري: رحلة إلى ما وراء الأنقاض". وأضاف الشرع "سيكون من غير النزيه الحديث عن بداية نظيفة". "الماضي حاضر في عيون كل شخص، في كل شارع، في كل عائلة. لكن واجبنا الآن ليس تكراره، ولا حتى بطريقة أكثر اعتدالا. نحن بحاجة إلى شيء جديد تماما ". وهو ما يحدث فعليا فالمحادثات المباشرة بين تل ابيب وسوريا "الجديدة" ليست مجرد تطور دبلوماسي عادي - إنها تمثل اعترافا بواقع كان مرفوضا منذ زمن طويل نتيجة تعقيدات دينية وقومية، لكن المفارقة ان أكثر الاطراف التي كانت سببا في عدم الدخول في المفاوضات سابقا وصولا للصلح بين الجانبين كانت التيارات الدينية والجهادية وهي نفسها الان التي تقود مسيرة الصلح المحرم سابقا بمباركة ودعم من اسرائيل وواشنطن.
ايضا من المفارقات ان وكالة انباء "رويترز" عندما نشرت بعض تفاصيل المفاوضات، لم ينكره لا الجانب السوري ولا الاسرائيلي مما اكسب التقرير مصداقية تعزز بحقيقة ما قام به كلا الجانبين. على الجانب السوري، اراد الجولاني ارسال رسالة مفادها "رغم انه محاط ببعض الجماعات المتطرفة الرافضة لتلك الخطوة، فهو مستعد لدفع ثمن سياسي ولو كان من أمن سوريا الداخلي، من أجل مواصلة المحادثات". حتي ان صحيفة الشرق الأوسط اللندنية كانت قد رصدت الاضطرابات السياسية والدينية التي نشأت بعد لقاء الشرع مع الرئيس الامريكي دونالد ترمب في 14 مايو بالرياض. وبحسب مصادر الصحيفة، فمن بين الشخصيات المعارضة لهذا اللقاء أبو عائشة الشامي وأبو الفتاح الشامي، اللذان كانا على ما يبدو جزءا من تنظيم "حراس الدين" – فرع من تنظيم القاعدة في الماضي. وفي بيان نشر على قناة تلغرام للمنظمة، هاجم أبو الفتاح الرئيس الشرع، واصفا إياه بالكافر والخائن. علي الجانب الإسرائيلي، ارادوا هم ايضا اختبار جدية الشرع في مواجهة الرافضين سواء من جماعته او من اطياف الشعب السوري الذين يرون على مدار الساعة حجم الانتهاكات الاسرائيلية فوق اراضيهم دون أي رد فعل من جانب السلطات السياسية او شبه العسكرية في دمشق.
تل ابيب تري في الاجتماعات الأمنية الدائرة حاليا مع السوريين أخبار جيدة، لأنهم لا يريدون بدء حرب مع دمشق في وقت مازالت فيه الجبهات مشتعلة مع اليمن وغزة والضفة، وإيران، والعراق، ولبنان. فالواقع الأمني المعقد في إسرائيل يجعل الحوار مع دمشق ليس مرغوبا فيه فحسب، بل ضروريا، خاصة ان الاتصالات الحالية التي تجري على المستوى التكتيكي بين القوات العسكرية على الأرض تهدف إلى منع الاحتكاك وعدم الرد من الجانب السوري لضمان ابقاء الضربات الاسرائيلية في اقل مستوي لها.
والمنطقة الجغرافية التي تجري فيها المحادثات يمثل في حد ذاته تحديا أمنيا مشتركا. "هذه المنطقة الواقعة بين مرتفعات الجولان وكل جنوب سوريا، شرقا على طول الحدود الأردنية السورية، هي منطقة برية. وهناك جميع أنواع الميليشيات المسلحة والمؤدجلة، بما في ذلك داعش أعداء النظام الحاكم في دمشق. وسيكون من الصعب عليهم ترتيب الأمور بمفردهم مع هذا التنوع دون طرف مثل اسرائيل يمتلك الكثير من ادوات الضغط العسكرى والنفوذ السياسي مع "الممولين" لهم.
علي كل حال فان القضية الرئيسية المطروحة على الطاولة المفاوضات التكتيكية في الوقت الحالي هي مستقبل الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد. ويطالب الشرع "الجولاني" بالعودة إلى شروط وقف إطلاق النار الموقعة مع النظام السابق لعام 1974، لكن لا شك هناك مجالا للمفاوضات اشمل وأعم. أولا وقبل كل شيء، حقيقة أنه يعترف الشرع بوقف إطلاق النار لعام 1974 ولا يطالب بالانسحاب من مرتفعات الجولان هي خطوة مهمة. وإنه يدرك أن هذا لن يحدث. وإذا طالب بذلك، فلن يكون هناك اتفاق دبلوماسي. وهو يعلم أيضا أن ترمب هو الذي اعترف بسيادة اسرائيل على مرتفعات الجولان اثناء فترة رئاسته الاولي في البيت الأبيض.
ما يطالب به الجولاني هو "إخلاء الأراضي التي استولت عليها تل ابيب بعد انهيار نظام بشار الأسد. والمطلب بحد ذاته منطقي بالنسبة له، وهناك أيضا فرصة أن يدعمه فيه الطرف الأمريكي. في المقابل فان اسرائيل تري إمكانية التقدم التدريجي في هذا المطلب وإخلاء المناطق التي احتلها، بشروط منها من سيملأ الفراغ الناشئ عن الانسحاب وما هو نوع التسليح المستخدم الذي لن يتعدى الاسلحة الخفيفة، ولا شيء أكثر من كلاشينكوف ومدافع رشاشة.
لكن المستوى التكتيكي في المفاوضات هو مجرد البداية. والسؤال، هل هناك ما هو أكثر من ذلك في الوقت الراهن، مثل حوار على المستوى الدبلوماسي؟ في حقيقة الامر فان كل المعلومات والتقارير الصحفية لم تذكر ما هو ابعد من المتاح المعلن الان، خاصة ان الانتقال الي المستوي السياسي والدبلوماسي يعني فتح القضايا المثيرة للجدل مثل وضع منطقة الجولان المحتل والذي ضمته اسرائيل فعليا الي حدودها وأصبح مقنن لديها بانه ضمن ارض اسرائيل بعبارة أخرى، فان الدخول في مثل المنطقة حاليا ربما لا تفضلها تل ابيب في الوقت الراهن في ظل وضعها المعقد امنيا على مختلف الجبهات.. وربما سيكون من المناسب لها القفز فوق تلك القضايا لحين اشعار اخر تكون في الاوضاع مناسبة. صحيح ان ترمب أعرب عن امله أكثر من مرة في انضمام دمشق لاتفاقيات الابراهيمي وربما جاء قرار رفع العقوبات عن سوريا كحافز قوي لاتخاذ تلك الخطوة، الا ان الاجواء ليست مهيئة تماما لمثل تلك الخطوة.
إذا كانت اللقاءات العسكرية هي الخطوة الأولى، فان الخطوة التالية ستكون بداية لما هو دبلوماسي، ولسان حال الطرفين يقول "صدق، لكن تأكد من أن الطرف الآخر يتمسك". الرسالة الواضحة هي أن إسرائيل تواجه فرصة تاريخية لإعادة تشكيل العلاقات مع سوريا الجديدة – (التي يعاد بناءها هويتها بمقاييس سياسية وامنية مختلفة تماما، ولعل انضمام ما يقرب من ٣٥٠٠ مقاتل أجنبي جهادي من اقليم الايجور بالصين الي ما يسمي بالجيش السوري رسميا أكبر وأخطر اشارة على اللا هوية للدولة الجديد). ومن المرجح أن تؤدي الاتصالات المباشرة، التي بدأت تحت بند الضرورة الأمنية الفورية لتجنب الاسوأ، إلى حوار سياسي أوسع. والمنتظر الآن هو انتقال الجانبان من "اللا حرب" إلى تفاهمات أعمق، مع التنقل بعناية بين المصالح الأمنية لكل جانب والقيود السياسية والعقائدية وايضا القانونية التي تحكم الطرفين خاصة ان هناك اطرافا اقليمية تريد وتسعي بجدية الي العودة للمربع صفر إذا لم تكن ضمن اي صيغة سياسية تحدد اوضاع المنطقة مستقبلا.